هي فتاة صغيرة ولكنها تتحدث بالدرر,
فتاة يافعة تربت في بيت طيب, واعتادت أن ترى والديها على سجادة الصلاة، حيث
غرسا فيها حب الدعوة منذ الصغر, أذنيها لم تكن تسمع إلا آيات الذكر
الحكيم, والديها كانوا حريصين على غرس القيم والأخلاق الحميدة في ابنتهم؛ لتكون عوناً لهم عند الكبر , لم يرزقا غيرها ؛ فأسموها دعاء.
منذ
أن سارت على قدميها وأمها معتادة على إرسالها للمسجد , حتى تتربى في كنفه،
وتنهل من العلم والأخلاق؛ ولتجعلها في منأىً عن أطفال الحي الذين يقضون
أغلب أوقاتهم باللعب واللهو.
شيئاً
فشيئاً بدأت تظهر شخصية دعاء، والناظر إليها يظن أنه يتحدث مع شابة بلغت
العشرين من عمرها ؛ فهي لم تكن متذمرة من الحياة التي رسمها أبويها لها ؛
إنما كانت من تذكّرهم إذا نسوا شيئاً, وهي تدور في فلك أبويها, تتمتع بكل
ما يحيطها من حنان ومحبة لم تحظى بها أي فتاة أخرى, وأصبح أبويها يتعاملون
معها وكأنها مسؤولة عن دعوة يجب أن تسعى في نشرها .
ولكن آن الأوان لتختلط بعالم آخر غير العالم الذي رسمه لها والديها .
حيث أول
يوم في العام الدراسي, والخطوات الأولى لدعاء في المدرسة , استيقظت كالعادة
مع والديها على صلاة الفجر , ثم أعدّتها والدتها بالزي المدرسي ، وغطت
رأسها بوشاح يستره, وحصنتها بالقرآن الكريم, وانتظرتا معاً حتى أتت سيارة
المدرسة وركبت دعاء مودعة أمها تلوح بكفها الصغير.
سويعات
قصيرة، وعادت دعاء إلى منزلها وقد غشي وجهها الجميل البريء سحابة من الحزن,
ولمحت الأم الحنون أن هناك أمراً يختلج في نفس صغيرتها.
لم تحتج
الأم إلى جهد جهيد لتفصح الفتاة عما في نفسها قائلة : أماه إن معلمتي
هددتني بالطرد من المدرسة إن لم أعود غداً دون هذا الحجاب الساتر.
ردت عليها الأم قائلة : ولكنه الحجاب الذي يريده الله يا ابنتي !
فقالت دعاء : نعم يا أماه ولكن المعلمة لا تريده !
فأجابتها الأم : حسناً يا ابنتي .. المعلمة لا تريد، والله يريد ؛ فمن تطيعين ؟
أتطيعين الله الذي أوجدك وصورك وأنعم عليك ؟ أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعا ؟!
حينها قالت دعاء وهي تمسح دموعها : بل أطيع الله .
فقالت الأم : أحسنت يا ابنتي وأصبت.
هدأت دعاء
قليلاً، وعادت لها الفرحة, وأخذت تقلب بدفاترها, سعيدة بأغراضها المدرسية,
وبعد أن انتهت جهزت حقيبتها استعداداَ ليوم جديد.
استيقظت
دعاء كعادتها فجراً، وجهزت نفسها، وذهبت لمدرستها مودعة والديها، وما أن
رأتها المعلمة حتى انفجرت غاضبة مؤنبة تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها ولا
تستجيب لمطالبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها ، ولما زادت في التبكيت
والتأنيب ثقل الأمر على دعاء؛ فلم تستطع أن تواجه ذلك السيل من الوعيد
والزجر، وتلك النظرات من زميلاتها ؛ فانخرطت في بكاء شديد أذهل المعلمة
وجعلها تتوقف وتهدأ ، ثم قالت دعاء كلمة حق خرجت كالقذيفة : " والله لا
أدري من أطيع ؟ أنت أم هو ؟ "
قالت لها المعلمة مستغربة : من هو ؟!
قالت دعاء : " الله , أأطيعك أنت فألبس ما تريدين وأغضبه ؟ أم أطيعه وأعصيك ؟ لكني سأطيعه سبحانه ولتفعلي ما تشائين.
صمتت المعلمة مذهولة ، ثم اتصلت بأم دعاء واستدعتها للمدرسة لتقول لها : يا أم دعاء لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي.
نعم
فقد أظهرت دعاء تلك المعلمة على حقيقتها وأخبرتها أنها جعلت نفسها ندا
لله، إذ هي تأمر بخلاف أمره، وتوجه إلى خلاف ما يريد؛ فتصاغرت في نفسها،
وانزاحت عن فطرتها ؛ فعرفت الحقيقة، وما أحوج الدعاة أن يعرفوا أن مهمتهم
هي أن يصلوا الناس بربهم، ويضعوهم أمام مسؤولياتهم, ويعرفونهم بأنفسهم كي
لا يتمردوا ولا يطغوا, وما أحوج الدعاة أن يعرفوا أن الحق يصل إلى القلوب
إذا خرج من القلوب التي تؤمن به وتعمل بمقتضاه , أما الكلمات الباردة فقلما
تؤثر في السامعين .