ابو اميره عضو الذهبى
الساعه الان : [ الصفه : المهنه : الاوسامه : التوقيع : جنون الحب توان الجنس : عدد المصاهمات : 494 نقاط : 1286 السٌّمعَة : 1 تاريخ التسجيل : 25/10/2011 الموقع : جنون الحب توان
| موضوع: الحجارة تشهد أن لا إلاه إلا الله الثلاثاء ديسمبر 27, 2011 7:29 pm | |
|
لمن لم تقرأهذا المقال و الله انهمرت دموعي مدرارا عندما قرأته منذ سنتين و اليوم أشارككم فيه أرجوك أختي إصبري على قرائته حتى النهاية لتعلمي أن وعد الله حق و ان الحق يعود لأصحابه مهما طال الزمن
شمس الله تشرق على غرناطة
هناك مدن لها تاريخ, ولكن غرناطة هي التاريخ نفسه, بقعة زكية من الأرض. أخذت من ثمرة الرمان لونها واسمها, وكانت شاهدًا على أفول حلم وبعث حلم جديد. إنها آخر الممالك التي سقطت من الأندلس القديم. بعد أن ظلت تقاوم وحدها أكثر من مائة عام. قال عنها الشاعر الإسباني لوركا: (إن غرناطة تقف على جبلها وحيدة منعزلة. ليس لها بحر ولا نهر, لا منفذ لها إلا من أعلى. حيث السماء والنجوم). لقد هجرها أهلها من المسلمين, وهدمت مساجدهم, وحرموا من إقامة الشعائر فيها لمدة 500 عام. ولكن صوت الله عاد يرتفع من جديد من فوق تلالها.
رحلتنا إلى غرناطة كانت مختلفة, في البداية ضعنا وسط صخب المدينة الأوربية الحديثة والمتاجر والكاتدرائيات وزحام السيارات والمباني الزجاجية. وكان هذا الأمر كفيلا بمحو كل الصور الرومانسية التي رسمناها عنها من واقع كتب التاريخ وذكريات الحزن والأسى على ضياعها. ورغم ذلك فقد واصلنا سيرنا الحثيث إلى حي (البيازين) الذي لم يتغير اسمه القديم لحسن الحظ. كنا نسعى إلى حيث يوجد المسجد الجديد, أول مسجد يقام في هذه المدينة منذ أن طرد منها الإسلام والمسلمون منذ أكثر من خمسمائة عام. صحوة جديدة, وبعث غريب كان علينا أن نشهد ولادته.
عندما وصلنا حي البيازين وجدنا بعضا من غرناطة التي كنا نسمع عنها, مازالت تنتمي بقدر ما إلى تراث المدينة العربية القديمة, خططها وتقسيمها, والأسماء التي تحملها الدروب والشوارع الضيقة المرصوفة بالأحجار الصغيرة, وبيوتها العتيقة بما عليها من اصص للأزهار, ما يجعلها مختلفة عن كتب الثراث هي تلك الكنائس التي ترفع صلبانها فوق جدران المساجد القديمة.
لم نجد المسجد الجديد ولا مَن يدلنا عليه, وحتى أرقام الهواتف التي معنا لا تجد من يَرد عليها, ربما لأنها تغيرت أو حدث نوع من الخطأ الذي لم نفهمه, أخذنا نصف لمن قابلناهم أننا نبحث عن مسجد جديد, يقيمه مسلمون جدد, اختاروا هذا المكان بالذات لأهميته التاريخية, ولكن حاجز اللغة ظل حائلا دون أن يفهموا ما نريد معرفته
كان الجو حارا, وقفنا عند إحدى البقالات لنتناول بعضا من المرطبات, وكأنما قرر القدر أن يشفق علينا أخيرًا فصنع لنا معجزة صغيرة, وضع أمامنا إعلانًا كبيرًا باللغتين العربية والإسبانية. يحمل صورة المسجد الجديد, معلنا أن الافتتاح سوف يكون بعد خمسة أيام. وأن جميع المسلمين مدعوون للحضور, وفي أسفله كان العنوان الذي نبحث عنه (بلازا سان نيكولاس), أسرعنا إلى سيارتنا المستأجرة وبدأنا نسأل عن هذه الساحة. صعدنا إلى درب علوي ضيق مرصوف بالأحجار, وبدأت المدينة تتكشّف أمامنا من أعلى, وهي رابضة في عمق الوادي الأخضر, تحيط بها جبال سيرانيفادا الشهيرة, كان المشهد ساحر الجمال, والمدينة القديمة تبدو وسط جوهرة نظيفة وهادئة, على أطراف التلال تقف صفوف من الزوار, وأسراب من العشاق وبعض الرسامين. يحاولون استلهام تراث الموريسيكين, أهل الأندلس القديمة الذين أرغموا على ترك مدينتهم. لم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة بين غرناطة القديمة, ومدينة فاس القديمة أيضا, فقد سكن المدينتين الناس أنفسهم, بعد أن ُطرد أهل غرناطة لجأ الجزء الأكبر منهم إلى فاس وهم يحملون مفاتيح بيوتهم القديمة وأحلاما غامضة بالعودة إليها, صنعوا من فاس مدينة على شاكلة هذا الحلم الغامض. ولكن غرناطة الآن رغم قدمها مازالت فتية بينما فاس القديمة مهددة بالانهيار, المياه الجوفية تأكل قواعد منازلها, وشوارعها الضيقة الجميلة تحولت إلى سوق مليء بالقبح والصخب لا تشم فيها إلا روائح روث البغال, الحيوانات الوحيدة القادرة على حمل البضائع واختراق شوارعها, كان الفرق شاسعًا بين سوء المعاملة التي تعامل بها مدننا القديمة, وذلك الاحتفاء الذي نراه في غرناطة, ومن المؤسف أننا نعامل كل مدننا القديمة بالطريقة الفظة نفسها.
مسجد القمة
ظللنا نواصل الدخول في الأزقة المتشابكة, قبل أن نصل إلى قمة التل, فوجئنا بأن الطريق أمامنا مغلق بحاجز خشبي, وبجانب الحاجز كان هناك ميكروفون يتحدث فيه كل من يريد أن يمر بسيارته. عليه أن يبين سبب قدومه إلى المكان حتى يحدّوا من وجود السيارات داخل هذا الجزء التاريخي. ولم ندر ماذا نقول, كان هناك صوت سيدة ينبعث من الميكروفون يسألنا عن شيء لا نعرفه, أخذنا نصيح: نيو موسكيو, سان نيكولاس, صاحت المرأة وصحنا فيها والسيارات من خلفنا تصيح بأبواقها هي أيضا. وأخيرا بدا أن السيدة قد يئست من ارجاعنا ففتحت البوابة, وسمح لنا بالمرور, أصبحنا فوق قمة التل أخيرا, وبدت أمامنا مجموعة من الكنائس التاريخية تحيط بالهضبة مثل السوار المحكم. كان أكبرها وأكثرها ازدحامًا بالزوار هي كنيسة سان نيكولاس شخصيا. ولكن في مواجهتها يوجد المبنى الأبيض لمسجد غرناطة الجديد, المكان الذي نسعى إليه.
عندما خطونا داخلين إلى الحديقة الصغيرة بدا كأننا ننتقل إلى عالم آخر. كان (وادي شينيل) الذي يحيط بغرناطة يمتد أمامنا مليئا بأشجار الفواكه, وعلى القمة الأخرى المقابلة لنا تماما يربض أعظم أثر إسلامي في إسبانيا, قصر الحمراء بأسواره وأبراجه القديمة, لم يكن اختيار موقع المسجد عبثا إذن, فالمنارة الحديثة تستمد ضوءها وعبقها من إرث قديم مازال يقاوم عوامل الزمن والغربة, سرنا وسط ممرات الحديقة الصغيرة, وسط الأشجار التي لم تنم بعد, والزهور الخجلى المفروشة حديثا, كان المكان يشتعل بالحركة, فريق من العمال يعملون في حركة دائبة, كان المسجد الصغير يأخذ أهبته من أجل يوم الافتتاح, أقبل علينا اثنان من المشرفين مرحبين بنا: أنتم عرب, مسلمون, مرحبا بكم في مسجد غرناطة الجديد, الأول كان اسمه عبدالله, واسمه المسيحي السابق كان استبسيان. والثاني محمد علي, واسمه السابق خوسيه, أشارا لبقية الشباب من العمال, هؤلاء كلهم مسلمون إسبان, الجيل الثاني من المسلمين الإسبان, يعملون في المسجد دون أجر تقريبا, وهذا المعلم الذي يركب الخشب المحفور على البوابة جاء إلينا من المغرب, من مدينة فاس, أجداده كانوا من غرناطة, التاريخ يعاود التنفس من جديد, ندخل إلى بهو المسجد, لم يكونوا قد انتهوا من فرش السجاد بعد, ولكن المنبر كان قائما من الخشب المطعم بالصدف, والقبلة كانت غائرة في الحائط في اتجاه المسجد الحرام, انظروا إلى تصميم القبلة إنه نفس تصميم القبلة في المسجد الكبير في قرطبة, أما المنبر فهو طبق الأصل من منبر المسجد الأقصى. والرخام نفس رخام قصر الحمراء. لقد جمعنا أهم المعالم الإسلامية في مكان واحد. نصعد إلى أعلى المئذنة, تبدو أبراج قصر الحمراء واضحة, كل من يدخل الحمراء سوف يرانا, سيعرف أن هناك منارة جديدة قد ارتفعت, ولو أنصت قليلا فسوف يسمع ترتيل القرآن. كل الكنائس التي تحيط بنا كانت مساجد فيما مضى, لذلك حرصنا على أن نبني مسجدنا في هذا المكان, ومنذ 18 عامًا, ونحن نقاوم العقبات حتى نتمكن من اتمام البناء, إنه ليس مجرد مسجد كما ترى, إنه مشروع متكامل, دعنا نهبط تحت الأرض, فهذا البناء الذي يبدو صغيرًا له امتداده تحت الأرض, قاعات وغرف كثيرة, هنا سوف نقيم مشروعًا دائما لتحفيظ القرآن ودراسة اللغة العربية, لاإسلام دون لغة عربية, وهناك قاعة للمؤتمرات والاجتماعات, سوف يأتي إلينا علماء الإسلام من كل أنحاء الأرض. ويجب أن نهيئ مكانا للاجتماع بهم, وهنا أيضا سنقيم معارض للفنون الإسلامية, سيدرك الجميع أنهم لا يتعاملون مع دين جامد, ولكن مع حضارة كاملة, وهناك حجرة لإمام المسجد, وللأسرة التي تتولى رعايته, وهذا مشغل لتعليم النساء من الفقيرات, نواصل الهبوط, شاهدنا دورين كاملين تحت الأرض, مجهزين بكل مستلزمات هذا المشروع, نعاود الصعود إلى حديقة المسجد مرة أخرى, يشيرون إلى الزهور التي تشق التربة في اعتزاز, يجب أن يعرفوا أن الإسلام جميل, لقد اخترنا حي (البيازين) لأنه المكان الذي شهد زوال دولة الإسلام من أوربا, وإذا قدر للإسلام أن يعود إليها فيجب أن يبدأ من هذا المكان, أقول لهم: (أين أمير الجماعة الإسلامية مالك عبدالرحمن رويز?). كنت قد تحدثت معه من الكويت وحكى لي عن تاريخ تكوين الجماعة, قالوا لي إنه مشغول, الاحتفال ضخم وسوف يحضره ضيوف من كل أنحاء العالم, يمكنك أن تراه يوم الافتتاح.
الإسلام يبعث
كان بيننا موعد آخر من أجل هذا الحدث الاستثئناثي, ولكن كيف عاد الإسلام إلى إسبانيا مرة أخرى? كيف عاود الإسبان اعتناقه طواعية واختيارًا دون غزو ودون سيف? كيف اختاره طواعية آلاف الإسبان دينا لهم, ولم تعد تخلو أي مدينة كبرى في هذا البلد من مسجد مهما كان صغيرًا ومن تجمع إسلامي يؤمه, وكيف أصبحت غرناطة هي قلب هذه التجمعات, والنموذج الإسلامي الذي يريدون أن يقدموه لأوربا?
إنها قصة تعود إلى العام 1975, عندما اجتمع في قرطبة خمسة رجال مع الداعية الشيخ عبدالرحمن السيوفي, وهو واحد من أوائل الإسبان الذين دخلوا الإسلام, وسافر إلى المغرب ثم إلى مكة. وأصبح يجيد العربية وعلوم القرآن, وكان قد دعا الرجال الخمسة إلى الإسلام وجعل منهم نواة لبعث الدين الجديد, كان عليهم أن يعيدوا تجربة الهجرة الأولى عندما ولد الإسلام غريبا وتكون من عدة رجال هاجروا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة, لذلك أمر الشيخ الرجال الخمسة بالعودة إلى مدنهم المختلفة, وأن يبدأوا هم أيضا بالدعوة. وقد تكلل هذا الأمر بالنجاح في العديد من المدن, وفي غرناطة وفي حي البيازين على وجه التحديد توجد خمسمائة أسرة دخلت الإسلام, ومثلت العودة لهذا الحي بالذات أهمية قصوى في إنجاح الدعوة.
عندما قابلت الشيخ مالك عبدالرحمن رويز أمير الجماعة الإسلامية في غرناطة قال لي: (من وجهة نظر القانون الدولي والإسباني فإن لنا حق الوجود هنا وإقامة المنشآت الخاصة بنا ليس بوصفنا مواطنين إسبانا فحسب ولكن كمسلمين ايضا. إن المعاهدة التي عقدها السلطان عبدالله الصغير مع الملك الإسباني فرناندو والملكة إيزابيلا منذ 500 عام قد أكّدت حق المسلمين في الإبقاء على بيوتهم وأماكن عبادتهم, وإذا كان الملوك الإسبان قد انتهكوا هذا الحق بسبب التعصب تارة, وبسبب محاكم التفتيش تارة أخرى, فإن المعاهدة مازالت سارية, ويجب احترام بنودها, كما أن القانون الأوربي الذي ينص على حرية الدين يجب أن ينطبق علينا أيضا, من أجل هذا كان إصرارنا على إقامة هذه المؤسسة في غرناطة حتى تكون قلب الإسلام في أوربا).
صمم المسجد - أو بالأحرى المجمع الإسلامي - وفق التقاليد الأندلسية المعمارية, وبدئ في وضع الأساس في فبراير عام 1998, وقسمت مساحته إلى قسمين, مبنى المسجد نفسه وتبلغ مساحته 600 متر مربع, والمركز الإسلامي ومساحته 700 متر مربع تحيط بهما حديقة وفناء اتساعهما 800 متر مربع يربط بينهما ثلاثة ممرات بحيث يمكن أن تكون هناك أماكن مخصصة لدخول الرجال وأخرى للنساء, كما يمكن أن تدور فيه العديد من الأنشطة دون أن تتعارض مع بعضها البعض , وسوف يكون المسجد والحديقة مفتوحين دائما طوال ساعات النهار للرد على أي استفسارات للزائرين من الإسبان وغيرهم.
وترتفع المئذنة إلى 14 مترًا, وقد كُتب عليها عبارة (لا إله إلا الله), بالخط الكوفي, ويتكون المبنى كله من ثلاثة طوابق, أحدها فوق الأرض والآخران تحتها. ويواصل مالك عبدالرحمن قوله: (إن المسجد هو عماد الجماعة الإسلامية ومركز التناغم الاجتماعي لها, لا مكان للكراهية أو الحقد في مسجد غرناطة, وسوف تكون هذه المدينة هي النواة لأجيال من المسلمين الذين سينتشرون في أوربا ليسوا دخلاء على المجتمع بل جزءاً منه, لذلك لم نقم هنا مكانا للصلاة فقط, بل مركزًا للدعوة الحقيقية حتى يعرف الجميع الإسلام على أصوله الصحيحة دون تشنج ودون دعاوى للإرهاب.
صوت الله يعلو
بعد ذلك بخمسة أيام, أي في اليوم العاشر من يوليو 2003 كان علينا أن نعود إلى غرناطة في اليوم المحدد لافتتاح المسجد, لم نضل طريقنا هذه المرة, ولكن كان علينا أن نخوض نقاشا طويلا مع السيدة الإسبانية التي تتحدث عند حاجز الطريق, ذكرنا لها اسم المسجد, واسم السفارة الكويتية, ووزارة الإعلام, وكل الأسماء الرسمية التي تذكرناها, وفي النهاية سمحت لنا بالمرور. ولكن الشرطة عادت لتوقيفنا مرة أخرى أسفل المنحدر بسبب الإجراءات الأمنية, طلبت منا أن نترجّل من السيارة وأن نواصل الصعود سيرًا على الأقدام, كان الجو حارًا, ولكن وجدنا العشرات من الرجال والنساء اللواتي يضعن الحجاب على رءوسهن وهم يواصلون الصعود في إصرار, وعندما اقتربنا من الساحة فوجئنا بالزحام الذي يحيط بالمكان, كان المركز الإسلامي يعيش أهم لحظة في تاريخه, لحظة الولادة.
عشرات من الرجال والنساء والشباب يلتفون حول باب المسجد من الخارج, يحاولون أن يجدوا لهم مكانا, وحراس البوابة يحاولون هم أيضا إفهام الجميع أن الحديقة تسع بالكاد للضيوف الرسميين والإعلاميين, ماأدهشني هو ذلك العدد من الرجال الذين يرتدون الطرابيش الحمراء, بمن فيهم المشرفون على تنظيم الحفل, وبالقرب من المدخل كان هناك بائع طرابيش رائج الحال, يبيع الطربوش الواحد بعشرة (يورو), ولاأدري كيف تسلل هذا التأثير التركي إلى جو الاحتفال, ولا كيف اعتقد العديد من المسلمين الإسبان أن الطربوش من علامات الإسلام, ولكن هذا لم يكن وقت التساؤل على أي حال, كان الزحام داخل حديقة المسجد كبيرًا جدًا, ومالك عبدالرحمن رويز نفسه يرتدي الطربوش الأحمر وهو يلقى كلمة الافتتاح, يذكر اسم الله بالعربية, وبضعا من الآيات القرآنية, ثم يكمل الخطاب بالإسبانية, كان ضيف شرف الحفل هو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة الذي ساهم بجهده وأمواله في إقامة هذا المركز يجلس متواضعًا ومبتسمًا وهو يستمع للكلمات, ورغم أنه دارس جيد للتاريخ فقد كان مثلنا غير مصدق أنه يعيش هذه اللحظة التاريخية, ونهض ابنه محمد نيابة عنه وألقى كلمة بالإسبانية هو أيضًا.
وحانت اللحظة عندما أزيح الستار عن اللوحة التذكارية للمسجد, وتعالت فجأة أصوات التكبيرات عالية تشق عنان السماء, وتصل إلى ابهاء القصر الحمراء الراقد في سكونه, وإلى نهر حيدرة, ووادي شنيل, وقصبة البيازين, إلى كل المساجد التي طمرت وهدمت وشوّهت, وكل الذين ماتوا وهم يدافعون عن المدينة وكل الذين رفضوا التسليم, وقاوموا التنصير وعذبوا وشوهوا وطردوا, وتعالت أغاريد النساء المغربيات, واغرورقت عيون الفتيات الصغيرات بالدموع, وأخذ الجميع يعانقون بعضهم بعضا دون تعارف, يكفيهم أنهم عاشوا معا هذه اللحظة, اقتربت من الشيخ القاسمي وأنا أقول له: ما شعورك ياشيخ في هذه اللحظة? قال وهو يحاول أن يتمالك مشاعره: اسم الله يتردد في غرناطة, مَن كان يصدّق أن شمس الله ترتفع هنا من جديد?
كنا نعيش بالفعل لحظة إشراقة جديدة, لم تكن للتباكي على الأندلس الضائع, ولا الحلم بعودة زائفة له, ولكن من أجل فرصة جديدة للتعايش بين الأديان والحوار بين الحضارات, أن نعيد بعضا من تجربة التمازج التي كانت هذه الأرض شاهدة عليها, تجربة عمرت ما يقارب السبعمائة عام, ولم يعد هناك مجال للعداوة أو للثارات القديمة, كان هذا هو الشعور الذي يغمر الحاضرين جميعا, وهم يتجولون في أنحاء المجمع, ضيوف من تركيا وأساتذة من المغرب وسفراء الدول العربية, والكثير من المسلمين الأوربيين, من إنجلترا وفرنسا وغيرهما. بل إن العديد من الإسبان كانوا يوزعون بطاقات عن عناوين مساجدهم وتجماعتهم في مختلف المدن الإسبانية, وبدا واضحا أن خمسة قرون من محاولة تغريب الإسلام عن هذه الأرض لم تمنع إشراقته من جديد.
شاهد الحزن والأفول
على الجانب الآخر من التلال, يتطلع إلينا الشاهد الثاني, شاهد على غروب الأندلس, قصر الحمراء, واحد من أعظم ما خلفته الحضارة الإسلامية من آثار وأكثرها تعاسة, ورغم أنه كان عنوانا على الأبهة ونشوة الصعود فإنه كان أيضًا عنوانًا على الاستسلام والهزيمة, كنت أسعى إليه ونفسي تموج بالمشاعر المتضاربة, كان علينا أن نهبط من فوق كل التلال, وأن نخترق قلب المدينة الأوربية, وأن ندور على الطريق الطويل المؤدي إلى الحمراء مخترقين سفوح جبال سيرانيفادا. وزيارة الحمراء ليست عادية, فعليك أن تحجز مكانا لك قبلها بأيام طويلة, وقد حجزنا من أجل هذه الزيارة قبل أن نشرع للسفر من الكويت, ولم يتم تحديد اليوم فقط, ولكن تم تحديد ساعة الزيارة أيضا, لو تأخرنا عن هذا الموعد نصف ساعة فقط فسوف تلغى الزيارة بأكملها, ولم ندرك سبب هذا التشدد إلا ونحن على أبواب القصر بالفعل, نشاهد أمواج البشر من كل الأجناس وهي لا تكف عن صعود السلالم العتيقة, واجتياز حدائق جنة العريف وصولا إلى قصر بني نصر.
نصعد فوق الدرج المتآكل لقصر الحمراء أو كما يسمونه باللغة الإسبانية (الهامبرا), كان مازال صامدا وراسخا رغم الزلازل ومحاولات الهدم والحرائق والتفجيرات التي مرت عليه, دليل على محنة الحضارة الإسلامية على هذه الأرض, نخطو إلى أول الأبواب (باب الرمان), عقد حجري ضخم محفور عليه ثلاث رمانات, وهو ليس رمزًا للقصر بقدر ما يدل على غرناطة التي يعني اسمها (الرمانة) باللغة الأيبيرية, ويقودك هذا الباب إلى غابة وارفة الظلال رغم أن الصعود فيها مجهد من كثرة الدرج الذي عليك أن تواصل الصعود عليه. قبل أن تجتاز بابا آخر هو باب الشريعة, تلفك أجواء الحمراء شيئا فشيئا, وتكتشف أنك تدخل مكانا يرقد على حافة الحلم والواقع, إنه حلم الأماني الذي تخيله ملوك غرناطة, وهو العالم المتكامل الذي تحيط به الأسوار المنيعة, ورغم ذلك فهو المكان نفسه الذي وقعت فيه وثيقة الاستسلام.
ذات لحظة في القرن العاشر الميلادي, قرر زعيم البربر باديس بن حبوس أن يبني لنفسه قلعة فوق هذه القمة المرتفعة. التي ترتفع عن الأرض بأكثر من سبعمائة متر, خيّل إليه أن هذا كفيل بحمايته من الفتن التي تدور أسفل المدينة بين العرب والبربر والمولدين. بنى قصرا ودار حكومة وقلعة وأحاطها جميعا بسور محكم, كان هذا هو مولد قصر الحمراء, ثم ما لبثت أن ضاعت منه ودخلها محمد بن الأحمر النصري, وحاول أن يجعل منها حلم الأمان هو أيضا, ولكنها تنقلت من سلطان إلى آخر, كل واحد يزيد من مبانيها ويكثر من تحصينها, ولكنها لم تمنح الأمان لأحد, لم يكن هناك غالب إلا الله, ولم يكن باقيا إلا وجهه ذو الدوام بعد أن يتفتت كل البنيان..
على الجدران يتكرر النقش, بنفس الصيغة, (لا غالب إلا الله) كأنها رقيا وتعويذة, كان السلطان الذي كون مملكة غرناطة من فتات الممالك الهاوية قد دفع ثمن ذلك غاليا, خيانة وغدرا وتحالفا مع العدو, وحصارا لإشبيلية, لذلك كان يدفع بهذه الرقية كل هواجس الندم عن روحه المنهزما, ورغم ذلك ووسط هذا الحزن يوجد جمال بهي لا تتصوره عين بشر, نقف على حافة البركة الموجودة في فناء الريحان, تعبق أشجاره المكان وتحيط بنا الأعمدة الرخامية والأفاريز المحفور عليها العديد من أبيات متتالية من الشعر, نعبر منه إلى بهو السفراء عندما كان هذا المكان هو قلب الأندلس, وكانت القبة الشاهقة التى تزينها زخارف تشبه النجوم هي سماء أخرى, تقودنا أقدامنا إلى فناء الأسود, نافورة صغيرة تحيط بها مجموعة من الاسود الرخامية الصامتة, تلتف حولنا غابة من الأعمدة الرفيعة يبلغ عددها مائة وأربعة وعشرين عمودأ, رشيقة كقدود العذراوات, تتوالى الأفنية والأبهاء, ولا نكف عن الدهشة والدوران وقد وقعنا جميعا تحت هذا السحر الطاغي.
تقترب مني سائحة يابانية وتسألني بالإنجليزية إن كنت عربيا, وعندما أومئ بالإيجاب تطلب مني أن أقرأ لها بعضا من الأشعار المحفورة على الجدران, يشعرني الطلب ببعض من الغرور, فقد اكتشفت هذه السيدة وحدها أن جزءا من هذه الحضارة يخصني. وبدأت أقرأ لها أبياتا من الشعر (تبارك من ولاك أمر عباده, فأولى بك الإسلام فضلا وأنعما) كانت القصيدة طويلة, بجانبها قصائد أخرى, ممتدة على طول الجدران, ولكن معظمها ركيك ومتكلف ومليء بالأخطاء الإملائية, كيف يمكن ألا يهتم السلطان - أيّ سلطان - من الذين توالوا على إنشاء هذه التحفة المعمارية الجميلة بالتدقيق في الكلمات التي تحفر على جدران قصورهم خاصة وهي مديح خالص لهم, لم أعرف السبب إلا بعد أن قرأت تاريخ الحمراء بعد السقوط.
لقد تعرض قصر الحمراء للتشويه والمعاملة السيئة على مدى قرون طويلة بطريقة لم يتعرض لها مبنى في أوربا, ففور أن خرج عنه أبو عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة من أحد الأبواب, حاملا معه رفات أجداده, وتوسل إلى الفرنجة أن يغلقوه حتى لا يدخله أحد من بعده, اتخذ ملوك إسبانيا من القصر مقرًا لهم, ولكن كان من الصعب عليهم العيش تحت ظلال هذه العمارة الإسلامية بما فيها من زخارف وآيات قرآنية, لذك لم يكتفوا بهدم أجزاء كبيرة منه وبناء كنائس وقصور جديدة بدلا منها ولكنهم محوا كل الزخارف العربية الموجودة على الجدران واستبدلوابها زخارف إيطالية..
ثم كفّ الملوك الإسبان عن السكنى فيه عندما انتقلت العاصمة إلى مدريد, وتحوّل الحمراء إلى ثكنة عسكرية للجنود يمارسون فيه تدميرهم العشوائي, وكانت نتيجة ذلك انفجار مخزن للبارود أشعل في القصر حريقا ضخما, وهجر تماما ليتحول إلى مأوى للصوص وقطّاع الطرق والغجر والبغايا والحيوانات الضالة, وجاء الاحتلال الفرنسي مع جيوش نابليون بونابرت عام 1802 فاتخذه الفرنسيون حامية لهم, ولأنهم لم يكونوا متعصبين ضد الإسلام ولا ضد العرب الذين رحلوا, فقد اكتشفوا جمال هذه العمارة وسحرها وأخذوا يعتنون بها, إلا أنهم عند انسحابهم من غرناطة لم ينسوا أن ينسفوا برجين من أبراج القصر, كأن الحمراء كان يدفع خلال هذه الفترة الثمن تكفيرا عن كل الذين تخاذلوا وتخلوا عنه.
في جانب من القصر, توجد قطعة دخيلة عليه, جناح صغير أنشأه الملك شارل الخامس ولم يقم فيه إلا قليلا, ولكن من اقام فيه وكتب عن الحمراء واحد من أجمل الكتب هو المؤرخ الأمريكي (واشنطن أرفنج), فقد قام بزيارة القصر في عام 1829 ولم يكن شاهدا على خرائب القصر فقط, ولكنه دون في كتابه بعض الأساطير المرعبة التي تحيط به, فهو يقص حكاية عن النقش الذي رآه فوق أحد الحوائط, يد بشرية تحاول الإمساك بمفتاح بعيد عنها, تقول الحكاية إن الملك العربي الذي بنى الحمراء كان ساحرًا كبيرًا باع نفسه للشيطان, لذلك, وضع هذا القصر تحت تعويذة سحرية, وهي السبب الذي أبقى على الحمراء طوال هذه السنين رغم كل أنواء الطبيعة والزلازل, بينما تهدمت بيوت العرب هناك, وتذكر التعويذة أن اليد سوف تصل إلى المفتاح وتقبض عليه, وحين ذاك سيتداعى القصر كله إلى حطام, وتظهر الكنوز التي دفنها العرب تحته.
لم يكن واشنطن إرفنج ساذجًا وهو ينقل هذه الرؤية الإسبانية المتعصبة في ذلك الوقت, كان هذا الرجل بحدسه الواسع قد ألف قبل هذه الزيارة كتابا منصفا عن حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم), وقام بهذه الرحلة خصيصا من أجل أن يعرف صدى الحضارة التي أيقظتها رسالة هذا الرجل.
وأدرك الإسبان أهمية هذا التراث الإنساني أخيرًا بعد أن اندثرت تمامًا الكثير من المعالم والآثار الإسلامية, ومع اليقظة الفكرية الجديدة التي بدأها تيار من المستشرقين الإسبان عادت الروح إلى هذه الآثار, وشمل التجديد قصر الحمراء الذي حاولوا أن يعيدوا إليه نقوشه وزخارفه القديمة, وصنع الأثريون الإسبان ما يشبه المعجزة وهم يحاولون استعادة هذا القصر من حطام الماضي وعاونهم في ذلك عدد من الصناع المهرة الذين حضروا من المغرب خصيصا لهذا الأمر, كان احفاد الاندلسيين القدامى, هم الذين أزالوا النقوش الإيطالية وأعادوا الآيات والأشعار ولكن مع الكثير من الأخطاء الإملائية والركاكة التعبيرية, والمدهش أن الحمراء بحالته هذه, مازال تحفة معمارية لا يوازيها أي أثر, فكيف كان بحالته الأصلية, وكم كان سيصلنا منه لو لم تطله كل هذه الأيدي المدمّرة?
ورغم كل هذا البهاء, لم أستطع أن أمنع نفسي وأنا أطل من فوق أسوار الحمراء من أن أتأمل المئذنة الصغيرة البيضاء لمسجد غرناطة وهي تطل علينا باستحياء من قمة التل المجاور, ولم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة بين نقطتي البداية والنهاية, بين لحظتي البزوغ والأفول. وهل يمكن أن نذكر قصة هذا الأندلسي الضائع دون سكب مزيد من العبرات التي لم نعد في حاجة إليها?
التاريخ..رؤية مختلفة
لعلنا نتذكر ذلك المشهد المهيب عندما وقف طارق بن زياد يخطب في جنده القلائل في مواجهة جموع القوط الذين كانوا يفوقونه عددا, وهو يخطب فيهم مستحثا: (البحر من ورائكم والعدو من أمامكم وليس لكم من مهرب إلا القتال). كان قد أحرق كل سفنه في حركة انتحارية لا يصدقها العقل ولم يبق أمامه إلا أن يخوض معركة فاصلة ينتصر فيها أو يموت, هذا المشهد الرومانسي الرائع لا يصدقه كثير من المؤرخين الإسبان الجدد.
إنهم لا يناوئون التاريخ الإسلامي للأندلس. ولا يحاولون استئصاله من مجمل التاريخ العام لإسبانيا, ولا يعتبرونه أيضا فترة احتلال طال أمدها, ولكنه جزء أساسي من هذا التاريخ ومن فتراته المزدهرة أيضا, كل ما في الأمر أنهم يلغون من حساباتهم واقعة الغزو برمتها. فليس من المنطقي في نظرهم أن يقوم طارق بن زياد وهو الزعيم الصحراوي البربري بنقل كل هذا العدد من الجنود بواسطة السفن البدائية التي كانت متوافرة في ذلك الوقت دون أن يفطن القوط لذلك ودون أن يبادروا بالقضاء على طلائع الجيش الإسلامي أولا فأولا, كما أنه من الصعب نقل الخيول التي كانت لازمة للهجوم والإبل التي كانت تستخدم في حمل المؤن والعتاد في سفينة واحدة لأن كلا منهما لا يطيق رائحة الآخر, وهذه أمثلة بسيطة من الحجج والأسانيد التي يسوقونها والتي يستبعدون بها هبوط مثل هذا الجيش الإسلامي الضخم الذي استطاع أن يستولي على إسبانيا والبرتغال في ظرف سبع سنوات فقط.
فما الذي حدث إذن?
كان علي أن أبحث عن الجواب في مكان آخر وسط مدينة غرناطة المزدحم بالمحلات التجارية وحركة البشر, في كلية الدراسات العربية, وهي واحدة من أقدم الكليات التي انشئت بجامعة غرناطة منذ القرن الثامن عشر. وتهتم بدراسة تاريخ الحضارة الإسبانية الإسلامية وبحوث اللغة العربية, كما كان من مهمتها تجهيز الموظفين الذين كانوا يعملون في الصحراء المغربية عندما كانت تحتلها إسبانيا. وربما مازالت تقوم بتجهيز الذين يعملون في مدينة سبتة ومليلة حتى الآن. لا أعرف شيئا عن نشاطها الاستعماري ولكنها كلية جادة. وتصدر منها مجلة تعنى بالدراسات الأندلسية. كان هناك موعد مع المؤرخة مرجريتا خوسيه المتخصصة في التاريخ الإسباني الإسلامي التي قالت مؤكدة: (ما حدث هو عملية طويلة من التفاعل الثقافي بين السكان الإسبان وطلائع الجيش العربي القليلة العدد التي استطاعت الوصول إلى الشاطئ. لقد كان الحكام القوط هم أيضا غرباء عن الإسبان يعاملونهم بقدر هائل من القوة والوحشية. وكانت الضرائب التي يفرضونها على الفلاحين باهظة, كانوا من الكاثوليك بينما كان معظم الناس هنا أقرب إلى الوثنية. لذلك فقد وجدوا في هذا الجيش الصغير فرصتهم للخلاص فانضموا إليه بكميات كبيرة, اعتنقوا الإسلام وتعلموا العربية أيضا وأصبحوا قوة حربية لا يستهان بها, وهم الذين طاردوا القوط في كل أنحاء الجزيرة الإيبيرية.
... أما الأندلس - أندلس الحضارة والفكر والعقل - فقد كانت ثمرة التمازج بين أعراق عدة استطاعت أن تتعايش معا على هذه الأرض. العرب والبربر والإسبان واليهود, كلهم صنعوا هذا المزيج واعتمدوا على اللغة العربية والفكر العربي حتى الذين لم يعتنقوا الإسلام)
اسألها مدهوشًا: (وماذا عن الصراعات التي غمرت الأندلس. ماذا عن حرب الاسترداد التي قام بها المسيحيون من ملوك قشتالة وهم يحاولون استعادة الأندلس?)
تقول: (كانت حروبا إسبانية في أساسها, بين الإسبان المسلمين.. والإسبان المسيحيين, تعبير العرب هنا كان المقصود به اللغة وليس العرق. كانت العرب تعني مزيجا عرقيا. لذلك ففي أثناء الحرب الطويلة هذه , لم يكن مدهشا أن يلجأ ملك مسيحي إلى ملك مسلم لحمايته من عدوان ملك مسيحي آخر. أو يتحالف ملك مسلم مع المسيحيين ضد رفاقه من العرب, وعلى سبيل المثال فقد شارك ابن الأحمر في حصار إشبيلية وعاون الملك الإسباني في الاستيلاء عليها من يد العرب. في النهاية كانوا جميعا إسبانا..).
ألا يبدو التاريخ أحيانا غريبا, يكون أشبه بحيوان رخو قابل دوما لإعادة التشكل?, إن علينا أن نعترف بأن كل شيء قابل للجدل حتى تلك الحقائق العظمى أو التي كنا نعتقد أنها حقائق عظمى, وربما تعطينا حالة غرناطة علامة على ما تعنيه السيدة مرجريتا, فالحروب التي دارت بين أهل غرناطة أنفسهم والفتن التي أضعفتها كانت أكبر بكثير من حروبهم مع الإسبان. وفي قصر جنة العريف الذي يجاور قصر الحمراء توجد صورة وحيدة لهذا السلطان المسكين الذي كتب عليه أن يتجرع الذل في حياته وأن يتحمل اللعنات بعد وفاته, أبو عبدالله الصغير آخر سلاطين غرناطة, الذي وقع بيده صك تسليم المدينة, فهذا الوجه الشاحب النحيل, وتلك اللحية الرفيعة توحي بشاب حالم ومتردد يغلب عليه الحزن والكآبة وليس سلطانا متآمرًا استطاع أن ينتهز فرصة الصراع بين أبيه وعمه وأن ينتزع العرش منهما معا. ثم يخوض معركة غريبة ضد الإسبان ويتلقى الهزيمة ويبقى أسيرًا عند الملكين فرناندو وإيزابيلا لمدة عامين يتولى فيهما عمه العرش. بعد ذلك يتعهد لهما بالخضوع وأنه سيحكم غرناطة باسمهما فيساعدانه على العودة ليزيح عمه ويصبح ملكا لغرناطة من جديد حتى يسلمها لهما. هل كانت كل هذه الحروب والمناوشات هي حروبا إسبانية - إسبانية?
المصير التعس
قاومت غرناطة وحدها زهاء المائة عام, وكان سلاطينها يعرفون أن المعركة لا تدور فقط تحت أسوارها, وإنما بعيدًا عند الثغور الإسبانية, جبل طارق ورندة والجزيرة الخضراء, هذه الأماكن التي يسيطر عليها بنومرين والتي يأتي منها مدد الجنود والسلاح من بلاد المغرب, تعود أهل الأندلس أن تأتي جيوش المرابطين والموحدين ليقدموا لهم العون قبل لحظة السقوط. وكان بقاء هذه الثغور في أيدي المسلمين تعني أن الأمل مازال موجودا, لذلك فقد حرص فرناندو وإيزابيلا على أن يخوضا معاركهما الضارية في الجنوب أولا وأن يسدا هذه الثغور. وسقطت غرناطة بالفعل عندما سقط جبل طارق وطريف والجزيرة الخضراء, لم يعد هناك منفذ للأمل, ودام الحصار الأخير للمدينة أكثر من عام نفدت فيه كل ما لديها من مؤن. وأخذت المدافع التي جلبها فرناندو من كل مكان في أوربا تدك أسوارها كل يوم قبل أن توقع معاهدة استسلامها. تجرع أهل غرناطة كأس السم كاملا بعد سقوط مدينتهم, فرغم كل الوعود الخلابة التي تضمنتها المعاهدة من الإبقاء على بيوتهم ومساجدهم ولغتهم ودينهم إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث, أرغموا على ترك دينهم وإعلان تنصرهم. وعلى الذهاب إلى الكنيسة كل أحد. والويل لمن يتخلف, أو يرتدي ملابس نظيفة يوم الجمعة أو يقوم بختن أولاده أو حتى يتجه بوجهه شرقًا ويدعو أي نوع من الأدعية أو يمتنع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.. أو.. أو.. وكانت محاكم التفتيش تقف بالمرصاد لكل من تحوم حوله أي شبهة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك, ولكن صدرت الأوامر إليهم بمنع استخدام اللغة العربية وأن يسلموا كل ما لديهم من كتب. ثم صدرت الأوامر بمنع الأزياء العربية وأن تفتح بيوتهم على مصاريعها في أيام الجمع والأعياد حتى يستطيع مفتشو المحاكم من القساوسة الدخول في أي وقت لمعرفة إن كانوا يقومون بأي طقوس أو شعائر. بل وصل الأمر إلى منع استخدام الخضاب والاستحمام في الحمامات العامة, وهدمت كل الحمامات التي كانت موجودة. إزاء كل هذه المظالم قام الموريسيكيون بانتفاضتهم الأولى وامتدت إلى سائر مناطق غرناطة ولكن الإسبان أخمدوها في حمام من الدم وبدأت عملية ترحيلهم عن أراضيهم وبيوتهم.
لوركا.. ابن الخطيب
كان علي أن أنتزع نفسي من كوابيس التاريخ, أترك نفسي مع أحاسيس المدينة العصرية, لعلي أتنسم شيئا من روح المكان, أسفل التلال حيث تشتعل الحياة في أرجاء المدينة العصرية, وغرناطة لا تحمل وحدها عبء تاريخ المنطقة, ولكن يحيط بها عديد من شواهد التاريخ, . بجانبها توجد مدينة صغيرة هي (سانتافي). التي أسسها الملوك الكاثوليك كعاصمة لهم أثناء حصار غرناطة, وفيها وقع كريستوفر كولمبس اتفاقيته الشهيرة عام 1492 مع الملكة إيزابيلا التي فتنت بشاربه الرفيع, وقام بموجب هذه الاتفاقية بالرحلة للوصول إلى الهند بالاتجاه غربا وانتهى به الأمر باكتشاف قارة جديدة جعلت من إسبانيا سيدة العالم, كما تلتصق بغرناطة قرية صغيرة هي (فونتي فاكيروس) التي ولد فيها شاعر إسبانيا العظيم (لوركا) عام 1898; أدرك فجأة أن روح المدينة هنا لا تكمن في موقعها ولا في المباني التي تحويها بقدر ما تتجلى في البشر الذين عاشوا فيها وعشقوها, ولعل من أشهرهم هذين الاثنين, عاشق عربي مسلم هو لسان الدين بن الخطيب وعاشق إسباني مسيحي هو فريدريكو جارسيا لوركا.
في قلب غرناطة المزدحم يوجد المركزالثقافي الذي الذي يحمل اسم الشاعر لوركا. تتصدره صورة قديمة له بالأبيض والأسود ربما تعود إلى ما قبل مقتله بأيام قلائل, يبدو فيها زائغ النظرات, شارد الذهن كأنه كان يحس بدبيب القتلة وهم يدورون من حوله.ربما كانت المدينة تصيب كل عشاقها بلمسة من مصيرها. كان المركز كبيرًا متعدد الأنشطة, ولكن أهم ما فيه كانت المكتبة التي تضم عددًا من المخطوطات التي كتبها لوركا بخط يده. أخرجت لنا القيمة على المكتبة السيدة فاليسيا بلانيت مخطوطا قديما وهي تقول لنا: هذه مسرحية (بيت برنارد ألبا) إنها آخر مسرحية كاملة كتبها لوركا وكل الأدوار فيها للنساء فقط, وهي تدور حول الموت الذي كان يحوم بظله فوق مصير لوركا الفاجع, كان لوركا مسرحيا وشاعرا غجريا بالفطرة وموسيقى الكلمات, وقد كتب قصيدة للنهرين الصغيرين اللذين يمران بهما وهما حيدرة وشينيل يقول فيها:
نهرا غرناطة.. واحد من دمع وآخر من دم آه من الحب الذي طارت به الريح في مياه غرناطة لا مجاديف سوى الزفرات آه من الحب الذي ذهب ولم يعد
يعود بي الزمن إلى عاشق غرناطة الأكبر, ابن الخطيب الوزير والشاعر والأديب صاحب الكتاب الشهير (الإحاطة في أخبار غرناطة) الذي حاول أن يحيط بروح غرناطة بما فيها من ناس وبيوت وطرقات. كان مثل لوركا - رغم بعد الشقة بينهما زمانيا وثقافيا - يشتركان في موهبة الشعر و في مقاساة ظروف العصر الذي عاشه كل منهما, عصر الفتن والاضطرابات. والعيش على حافة الاغتيال.
كانت موهبة لوركا أشبه بالزهور البرية, التي تتفتح سريعا وتبدي ألوانها الفاتنة قبل أن يغيبها الذبول السريع, كانت حياته لهاثا مستمرا كأنه يدرك أن عمره القصير لا يدع له مجالا للتروي. في الثامنة عشرة من عمره كتب أولى قصائده, ونشر أول كتبه في العشرين بعنوان (انطباعات ومشاهد) حيث عرضت له أول مسرحية على مسارح مدريد(شؤم الفراشة), وتوالت الدواوين والمسرحيات وجعلته مسرحية (عرس الدم) التي عرضت عام 1933, واحدا من أعمدة المسرح الإسباني, ولكن الزمن لم يكن مواتيا لتفتح المواهب, كانت إسبانيا تعيش على حافة الحرب الأهلية, والصراع بين الجمهوريين وقوات فرانكو قد أصبح محتدما. وفي يوم 20 أغسطس من عام 1936 اقتحمت جماعة مجهولة بيت الشاعر واقتادته إلى مكان خارج غرناطة وقتلته رميا بالرصاص ولم يبلغ عامه الثامن والثلاثين. ومازالت ظروف هذا القتل غامضة حتى الآن. لقد اتهم حزب الكتائب التابع لقوات فرانكو بقتله. خاصة أن النظام الموالي لفرانكو لم يسمح بإجراء تحقيق كاف في هذا الأمر. وقد تلقف مفكرو اليسار هذا الأمر وجعلوا من لوركا شهيدًا للحرية ولمقاومة الظلم والطغيان. وحتى الآن لا أحد يعرف الحقيقة وراء قتل هذا الشاعر.
لم تختلف عملية اغتيال ابن الخطيب كثيرا ولكن القتلة كانوا معروفين.
لقد كان وزيرًا لسلطان غرناطة الغني بالله, ولوالده من قبله. وكان قائما على شئون القصر ونافذ الكلمة, وفي تلك الفترة المضطربة من حياة الأندلس ومخاوف السقوط ظل يؤازر السلطان وينظم القصائد في دعمه وتعضيده, ولكن الوشاة نجحوا في إفساد العلاقة بينهما, واضطر ابن الخطيب للسفر بعيدا عن غرناطة, ولجأ إلى بلاد المغرب لعل هناك من يجيره, ولكن الوشاة واصلوا السعي خلفه, وأوقعوا به ولاحقوه في كل مكان. واستطاعوا أن يؤلبوا عليه كل الحكام, ونجحوا في أن يجعلوهم يحرقون كتبه أولا, ثم يقومون بسجنه وتعذيبه ثم قتله بدعوى أن كتبه تتضمن الإلحاد والخروج عن الدين.
موت فاجع وجريمة ليس لها مبررها جمعت بين هذين الرجلين اللذين أحبا المدينة نفسها واستظلا بالسماء نفسها.ولكن هأنذا أعود إلى بحر التاريخ وكوابيسه, كانت غرناطة تأبى إلا أن تسقينا من تاريخها المعتق. نقف على تلالها الأخيرة ونرى الشمس وهي تغرب خلف جبال سيرانيفادا وأتذكر مرثية الغروب الأخيرة لها وتساؤلها المرير:
غارت الشهب بنا أم أثرت فينا عيون النرجس?
|
|
| |
|