إنَّ
الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونستهديهِ، ونعوذُ باللهِ من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا
هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً
عبده ورسوله . أما بعد :
قال الله تبارك وتعالى : ( وتحسبهم أيقاظا
وهم رقود ) ، فيخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن حال أصحاب الكهف
في رقدتهم الطويلة ، بأنهم يَتَرَاءون للناظر كأنهم أيقاظٌ ، في حين أنَّهم
نيامٌ نومًا عميقًا طويلاً ؛ لأنَّ ظاهرَ حالهم يدُلُّ على ذلك .
فالحالة
الطبيعيَّة تقتضي تطابُق ظاهر الشيء، أو شكله مع باطِنه وجوهره، فإذا وقع
التغاير والإختلاف حَدَثَ الخَلَل ، وعليه فالانخداع بالظاهر، والحكم على
الأشياء والوقائع والأحداث بناءً عليه، يُسَبِّب أخطاء فادِحةً في التقويم .
وإن أكبر مشكلةُ يُعانِي منها العقلُ الإنساني المعاصِر هي
انخداعُه بالمظاهِر، والأشكال، والرُّسوم، وكأنَّها تَتَطَابَق حتْمًا مع
البَوَاطِن، والجواهِر، والمحتويات.
وقد أخبرنا الله تبارك
وتعالى عن حال أهل الكفر فقال : ( يعلمون ظاهر من الحياة الدنيا وهم عن
الآخرة هم غافلون ) ، فهم لا يتجاوزون هذا الظاهر ، مخدعون به ولا يرون
ببصيرتهم ما وراءه ، وظاهر الدنيا محدود صغير مهما بدا واسعا شاملا ،
وقديما انخدع ابن سيدنا نوح - عليه السلام - لَمَّا حَدَثَ الطوفان، نَظَر
إليه على أنه مُجَرَّد ظاهرة طبيعيَّة - بناء على ظاهرها - يُمكن الإفلات
مِن عواقِبها؛ فقال: ( سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) ،
بينما عَلِمَ سيدنا نوحٌ حقيقتها؛ فقال: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ ) .
كما
أشار إليه في آية أخرى فقال عن المنافقين : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) ،
ولذلك فإن الوقوف على لُبِّ الشيء يَعْصِم منَ الزَّلَل والعثار الذي يوقع
فيه الاكتفاء بالظاهر.
وإذا انتقلنا إلى واقِعنا، يمْكَنَنا مُلاحَظة أنواع منَ الخَطَأ في الحكم على الأمور؛ بسبب النظر إلى الظاهر وحده.
ففيما
يتعلق بالإسلام عندنا : نجد "الإلتزام " عند كثير منَ المسلمينَ يَقْتَصِر
على الالتزامِ بِمَظاهر التدين؛ كاللِّحْية، والحِجَاب، مع غفلة خطيرة عنْ
حقيقة الالتِزام الدِّيني على مستوى الأفكار، والعَوَاطِف، والسُّلوك.
كما
أنَّ الأسر المُسْلِمة عندنا تعني إطلاق أسماء الشخصيات الإسلاميَّة على
الأبناء، وتعليق الأدعية على جُدران البُيُوت، واستعمال بعض العبارات
العربيَّة الفَصِيحة، مع إغفال أداء الحُقُوق بين أفراد الأسرة، وإحلال
جَوِّ الحوار والشُّورَى والتقوى في البيتِ،
وأيضا
في مجال الأُخُوَّة، يُلاَحَظ اهتمامٌ بالِغٌ بالمُعانَقَة، وسَرْد حقوق
الأخوة الواردة في السُّنَّة، والتَّخَاطُب بِمِثْل عبارة: "أخي في الله"؛
لكن هذا الظاهر قَلَّمَا تسنده شروط الأخوة وصفاتها في الواقع، من حيث
البذلُ والتضحيةُ، والتَّناصُحُ والمحبَّة والإيثار.
وإذا تناوَلْنا ما يَتَعَلَّق بالتَّعليم عندنا : يُقَاس نجاح التعليم
بِعَدَد التلاميذ، والهياكل التربويَّة - المدارس، والمعاهد، والجامعات،
ومراكز التكوين - في حين أنَّ مناط النجاح هو مدى وجود المعرفة، والتفكير
المنطقي، كما يُعْرَف المُثَقَّف بأنَّه حامل الشَّهَادات الأكاديمية،
بينما المقياس الصحيح هو حضوره الفعلي على مستوى العطاء، والإنتاج الثقافي،
والتأثير في المجتمع.
وفيما يتعلق بالدعوة فإنها لا تكاد تنجو مِن هذه الآفة، فقدِ اقْتَصَر
معناها عند الكثيرِ على الدُّروس، والمعارِض، وأشكال مُعَيَّنة منَ
التبليغ، رغم أنها في حقيقتها هي تحويل الناس إلى رَبَّانِيين، وهو ما
ينبغي أن نراه بأعيننا، كما أنها تعني إخضاع القُلُوب والعقول والجوارح لله
- عز وجل - فإذا لَمْ يَتَحَقَّق ذلك، فلا يُغْنِي الدَّعوةَ أن
تَتَزَيَّنَ بِمظاهرَ مُتَنَوِّعة منَ النَّشاط.
وليس يعني أننا لا تهتم بالمظهر فما من شك بأنَّ الشَّكل أوِ المظهرَ له
اعتبارُه،وقد يكون واجبًا - مثل حجاب المرأة - ، ولكن المقياس الحقيقي
للتقويم هو الجَوْهر أوِ الباطن، والقاعدة عند فقهاء الإسلام : ( العبرةُ
بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني ).
وخير ما نختم
به مقالتنا هذه قوله تعالى في كتابه العزيز : ( وَتَرَى الْجِبَالَ
تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) .....