إن من عجائب ما نراه اليوم ونسمعه تلك الدعوات السقيمة التي تدعو إلى مهادنة المجرمين المتنقصين من مقام النبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكانت تلك الدعوات مشفوعة بزعم التلطف في دعوة هؤلاء إلى الإسلام، أم كانت مشفوعة بدعوى كشف مؤامرة الانجرار إلى صدام الحضارات والديانات، أم كانت مشفوعة بتفسيرات أقل ما يقال فيها إنها سقيمة هزيلة، كمن يفسر هذه الجرائم بتقصير المسلمين في تعريف الغير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبتقصير المسلمين في التعريف بالإسلام ونحوه، وقبل المضي في الكلام أقرر أن هذا الكلام ليس محاكمةً لنوايا أحد من المسلمين، فالله تعالى أعلم بالنوايا، وإنما هو تنبيه من غفلة ووضع للأمور في نصابها بإذن الله، فنقول وبالله التوفيق:
إن أحداً لا ينازع في أننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مقصرون في القيام بأمر الإسلام، غير أن هذا لا يمكن قبوله تفسيراً لجرائم القوم ولا تبريراً لمهادنتهم، نعم لو كان المشتوم نحن المسلمين لقبلنا ذلك، ولو كان المتنازع فيه بيننا وبينهم سوء فهم مبدأ من مبادئ الإسلام، أو نسبة أمر مغلوط إليه لكان للحجاج والجدل بالتي هي أحسن موضع، أما وقد شتموا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما لا تتعلق به شبهة عقلية، ولا تتعلق به حرية اعتقادية، ولا تتناوله مساحات التأويل العقلي الفاسد، فإن غاية ما يتعلق به كفر الكافر استكبار عن قبول الحق أو فساد في فهمه، وإن غاية ما تتيحه مساحة الاختيار للمكلفين هو تصديق الشرع والانقياد له أو الجحود له والإعراض عنه، كما بين الله تعالى في قوله :" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"[1]، وهذا التخيير كما لا يخفى للتهديد، كما قال الإمام الطبري رحمه الله :" وقد بيَّـنّا في غير هذا الموضع بأن العرب تخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"[2]، والحاصل أن هذه هي مساحة الاختيار للمكلف وهو اختيار تكليف يترتب عليه وعد ووعيد، لا اختيار حرية ينجو المرء فيه باختياره ويسعد كائناً ما كان اختياره. فغاية ما يُقال في شأن الكافر أنه أعرض عن الشرع جهلاً أو تأويلاً أو جحوداً أو استكباراً،فالجاهل يُعلَّم، والمتأول يُفهَّم، والجاحد يُذَكّر، والمستكبر يُخوَّف، فإن زالت عوارض الكفر ففضل من الله وإن لم تزل فلا عدوان إلا على الظالمين، وليس أي واحد من العوارض السابقة مفتقراً إلى الشتم والعدوان على مُبلِّغ الرسالة حتى يُعتذر عن هذا الشتم بالكفر أو بجهالة حق المبلِّغ، فعُلم ضرورة عقلية ما هو معلومٌ ضرورةً شرعية أن الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم جريمة مستقلة لها اتصال بجريمة الكفر من وجه، ولها انفصال من وجه آخر، وهذا الموضع هو الذي يستزل قدم بعض المخلصين أو الغيورين أو أصحاب النوايا الحسنة من المسلمين إلى مهادنة هؤلاء المجرمين بحجة الخطاب الهادئ والحوار الناجع، ولعمري إن المقام هنا مقام انفكاك في الجهة بين جريمة الشتم وجريمة الكفر، يدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل كعب بن الأشرف :" من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال: نعم "[3]، قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب :"ووجه إليه من قتله غيلةً دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل قتله بأذاه له، فدل على أن قتله إياه لغير الشرك، بل للأذى"[4]، قلت: رحم الله القاضي العياض ما أفقهه، وهل الفقه إلا الوقوف عند كلام الله ورسوله، فلقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعلة القتل هنا وهي الأذى، فلم يعد هناك مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله برأي وتبرير وتفسير، وعُلم أن الشتم والأذى جريمة مستقلة عن جريمة الكفر من هذا الوجه.
ثم إن العجيب ممن يقول إن شتم هؤلاء المجرمين للنبي صلى الله عليه وسلم سببه تقصيرنا وجهلنا في التعريف به، وكيف يسب أحد شخصاً لا يعرفه؟ فمن أين لهم إذاً تحديد اسمه وصفته ونسبة دين الإسلام إليه؟ إن مثل هذا مثل من جاء إلى أحدنا فشتم أباه باسمه فقال له : إنك تشتم أبي لأنك لا تعرفه ولأني قصرت معك في تعريفك بمناقب أبي فهلا تفضلت بالجلوس معي حتى أستطيع أن أعرفك بذلك كله عسى أن تكف عن شتم أبي ؟ أي عاقل يقبل مثل هذا في حظ نفسه وأبيه حتى نقبله في حق أكرم الخلق على الله تعالى، سبحانك هذا بهتان عظيم.
بقي أمرٌ هنا وهو ما نسمعه من التنصل من حكم الإسلام في هؤلاء وهو القتل، والتذرع بحجج منها نفي الإرهاب والعنف عن الإسلام، ومنها عدم القدرة على هؤلاء، وهذا كله هراء محض، أما الحجة الأولى فمردودة لأن أحكام الإسلام لا يضرها أن يسميها الجهلة ما يريدون، ولقد حكى العلماء الإجماع على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم[5]، والأدلة في الشرع مستفيضة ليس هذا موضع بيانها، وأما الحجة الثانية فمردودة أيضاً لأن عدم التمكن من إقامة الحكم شيء وإنكار الحكم شيء آخر، ثم نقول لهذه الحكومات الإسلامية التي أرهقت ظهورنا بواجب الولاء الشرعي لها حفظاً لمصلحة الأمة وللأمن والأمان فيها استناداً إلى شريعة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُنتقص مقامه ويُشتم على مسمع منهم ومرأى، إن بإمكانكم أن تعلنوا حكم الله في هؤلاء وتهددوا بتنفيذه عند القدرة عليه، كما أن بإمكانكم المطالبة بالمطاردة الدولية لهؤلاء المجرمين كما طولبتم وسارعتم في الاستجابة إلى المطالب الدولية بمطاردة الإرهابيين المسلمين يزعمون، أليس جهد حكومات المسلمين في مطاردة هؤلاء إذعاناً لأوامر الطاغوت الأممي أولى أن تصرف في تعقب المجرمين الذي يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أم أن أداء حق الطاغوت الأممي وتقديم قرابين المعبد الصهيوصيلبي أوجب من القيام بحق النبي صلى الله عليه وسلم المفدى بالأرواح والمهج والغالي والنفيس، اللهم هذا مقام المتبرئ إليك من هؤلاء، والباكي إليك من قلة وجدان الحيلة والسبيل...
نعم، إن من شتم محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عرف محمداً، قد لا يكون عرفه حق المعرفة، لكنه لم يتوجه بسبه وشتمه إلى معدوم في ذهنه، ولم يتوجه بحقده ولؤمه إلى وهم في مخيلته، وإن من هذا حاله مظنة قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"[6]، فليعش هؤلاء المجرمون كالفئران يفرون من جحر إلى جحر، ويهلعون لرؤية مسلم يخشون انقضاضه عليه، أو أي جندٍ آخر من جند الله عز وجل، وما يعلم جنود ربك إلا هو، أما أن يهنأ هؤلاء بمهرجانٍ ثقافي سخيف أو بدعوة لحضور مؤتمر حوار أديان، فليس مما ننتصر به لرسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، ولا نامت أعين الجبناء.
-[b]