سأعود إليك في الربيع .. لن يستمر هذا إلى الأبد .. لا تخف .. مع بداية الربيع ستجدني بين يديك !"
هكذا قالت لي و أنا أدفنها في طبقة عميقة من التربة .. كانت قد وعدتني بالعودة قريباً .. مع بداية الربيع .. و ها قد جاء الربيع .. وهي لم تنهض بعد !
....................
كان يوماً غريباً ذاك الذي تعرفت فيه على هذه المخلوقة التي غيرت مجرى حياتي .. عنقائي الجميلة التي بهرتني بجمالها و علمها الغزير الذي لا ينتمي لهذه الأرض .. و أنساني ولعي بها أنها ليست منا .. ليست من البشر و لا تستطيع أن تكون مثلنا في يوم من الأيام .. و لا هي ترضى أن تكون مثلنا حتى لو كان هذا في إمكانها .. و لا حتى من أجلي أنا ؟!
لم أسألها هذا السؤال يوماً .. فقد كنت أخاف الإجابة !
.................
مضيت أهيم معها في دروب الأرض .. أعلمها طرقنا و عاداتنا و أساليب معيشتنا .. و لكنها لم تكن راغبة في فعل المثل معي .. فلم تشأ أن تعلمني شيئاً عن جنسها و نوعها .. قالت لي و هي تحتضنني لتخفف عني وطء كلماتها القاسية :
- " لن يفيدك ذلك بشيء .. تمتع بوجودنا معاً .. لن تكسب من المعرفة سوى الحزن ! "
و صمت على مضض .. لأنني لم أكن أعرف حكاية الإحياء هذه !
......................
قبل بداية الشتاء بأيام بدأت في الذبول .. صارت بشرتها شاحبة كالموتى و فقدت بريقها .. و طالت فترات نومها العميق الذي يشبه الإغماء .. ثم بدأت في العزوف عن تناول الطعام و حتى عن التحدث معي .. أفزعني تحولها العجيب فسألتها عما بها .. ظلت تحاورني و تناورني أياماً قليلة .. ثم اعترفت لي بالحقيقة المفزعة :
" إنه موعدي .. لا تنسني .. سأعود إليك مع الربيع ! "
لم أفهم و طلبت منها الإفصاح عن معنى كلامها .. بالحقيقة أنني أجبرتها على الكلام فقالت لي بوهن :
" أنني أموت .. موتاً مؤقت .. يجب أن أرقد في أرض رطبة منعزلة حتى أستعيد أيامي و أعود إليك مع الربيع ! "
كان هذا فظيعاً .. الأفظع هو أنني أنا ؛ لا أحد غيري ؛ هو من تريده أن يقوم بدفنها !
.......................
حملتها و الألم يعصر قلبي .. لم أصدق حكاية العودة هذه .. كانت قد ذبلت و مرضت إلى حد أنها لم تعد تستطيع المشي .. هذه هي " ماشا " التي كانت تقفز من ارتفاع مائتي متر دون أن تتأثر .. بحثت عن قطعة أرض رطبة باردة ؛ كما طلبت ؛ و لكنني حرصت قبل ذلك على أن تكون معزولة تماماً عن العالم و بعيدة عن أي عمران .. حتى أتجنب خطورة أن يحفر أحد بالمصادفة و يعثر على جسدها .. لذلك فقد تخيرت أبعد موقع يمكنني الوصول إليه .. و قمت بالحفر مستخدماً معول صغير .. و حرصت على أن تكون الحفرة واسعة بقدر كبير .. و قد حملت معي أغطية و ملاءات لأفرش لها مستقرها بها و لكنها قالت لي بوهن :
" فقط التراب .. غطيني بالتراب المندي الرطب و دعني أستعيد أيامي .. و سأعود إليك مع الربيع ! "
و دفنتها .. و غادرت المكان و رجعت لبيتي و عملي و أسرتي .. و لا شيء يشغلني سوي انتظار مقدم الربيع .. لتعود إلى كما وعدت !
..................
بشائر الربيع تتراءى لي في الأفق .. ربما لم يكن أحد في الكون ينتظر مقدم الربيع بهذا الوله كما كنت أنتظره .. استيقظت ذات يوم على صوت تغريد بلبل صغير تحت نافذتي و شممت رائحة أول بزوغ لشجرة الورد في حديقتي الصغيرة فعرفت أنه الربيع .. أنه الربيع .. أسرعت بارتداء ملابسي .. و هرولت خارجاً من البيت و جريت عبر الطريق قبل أن يستيقظ أي مخلوق و ينهض من فراشه و لا حتى أمنا الشمس ذاتها .. و انطلقت إلى البقعة التي دفنت فيها حبيبتي من شهور قليلة .
.....................
أخذت أحفر كالمجنون في التربة الرطبة العفنة .. حفرت و حفرت بالمعول حتى أزلت أغلب الطبقات .. الطبقات الأخيرة أخذت أحفرها بأظافري من فرط لهفتي و جنوني .. حفرت و حفرت و حفرت و حفرت حتى ظهر لي جسدها الراقد !
و لكن يا لخيبة أملي .. كانت ما تزال راقدة شاحبة الوجه هزيلة مغمضة العينين بل المصيبة أن شعرها قد أبيض تماماً .. و كان ما زال محتفظاً بلونه الأحمر الغامق عندما دفنتها .. ماذا حدث لها إذن .. ماذا حدث يا إلهي ؟!
..................
أخذت أتردد على المكان كل يوم .. أهملت عملي و أسرتي و أصدقائي .. كل يوم .. كل يوم كنت أذهب لأتفقدها .. و لكن الحال ظل على ما هو عليه !
....................
ثلاث و عشرين سنة مرت على هذا الحال .. و هي راقدة كما هي .. لا هي تتحلل و لا هي تنهض !
قالت لي " سأعود إليك في الربيع " !
أي ربيع يا " ماشا " .. أي ربيع ؟!
لم يعد هناك ربيع .. لقد ساء مناخ الأرض و اقتسمت السنة بين الشتاء و الصيف .. و لم يعد هناك خريف .. و لا ربيع .. فكيف ستعودين إذن ؟!
لكن علي الانتظار .. فلننتظر .. لعل وعسى !