رحمك الله يا زوجي العزيز.. لا يزال قلبي يعتصر ألماً كلما تذكرت ذلك اليوم.. كان يوما هائجاً من أيام فصل الخريف حيث أن الهواء كان نشطاً مثيراً للغبار الشديد من حوله.. كان عبد الوهاب قد قرر العمل إلى ساعة متأخرة من الليل في محل الخشب الذي يملكه على غير عادته، وعندما انهى جميع أعماله انطلق بسيارته عائداً إلى منزله الذي لم يكن يبعد عن محله سوى مسافة قريبة وعندما كان يقود وسط الجو السيء لمح شخصاً يلوح له بيده على قارعة الطريق طالباً منه أن يقله معه، كان عبد الوهاب طيب القلب كثيراً مما دفعه إلى التوقف للرجل، وبعد فترة صمت قصيرة نظر عبد الوهاب إلى الرجل الذي بدى عليه وكأنه قد تجاوز الستين من عمره وكان يسعل بقوة مما زاد اشفاق عبد الوهاب عليه.
انتظر عبد الوهاب قليلاً إلى أن هدأ الرجل وسأله بصوت خافت:
- " إلى أين يا عم؟ "
نظر الرجل إلى عبد الوهاب نظرة خاوية ثم اجابه:
- " منطقة الجهراء يا بني لو سمحت "
صدم عبد الوهاب من قول الرجل العجوز إذ أن منطقة الجهراء تبعد عن منزله مسيرة أربع ساعات وسط طريق غير ممهدة في الصحراء، وقال للرجل العجوز مستنكراً:
- " ولكن يا عم ..الجهراء بعيدة جداً من هنا وأنا تأخرت في العودة إلى منزلي" .
نظر الرجل إلى عبد الوهاب نظرة حزينة وقال:
- " اتعني انك لن تخدمني هذه الخدمة البسيطة يا بني"
شعر عبد الوهاب بالندم لما تفوه به وقال باستسلام :
- " أمري لله سأوصلك إلى الجهراء يا عم "
كانت خيوط الشمس قد بدأت بالظهور عندما تثاءب عبد الوهاب وهو على مشارف الجهراء حيث هدأت العاصفة الترابية فالتفت إلى الرجل الذي ألتزم الصمت طوال الطريق قائلا:
- " أين تسكن يا..... ؟ "
امتقع وجه عبد الوهاب حتى بات يشبه وجوه الموتى فالرجل العجوز لم يكن جالساً بجواره داخل السيارة !
سيطر الخوف الشديد على عبد الوهاب وارتبك وأدار مقود السيارة محاولاً العودة بسرعة من حيث أتى ولكنه وجد نفسه تائهاً في الصحراء نحو ربع ساعة حتى وجد أطلال مبنية وسط الصحراء بشكل هندسي يدل على أنها من صنع مخلوقات عاقلة، وفجأة تعطل محرك سيارة عبد الوهاب مما اضطره للنزول وسط الاطلال وبدأ بتفقده ولكن دون جدوى والتفت ليجد الرجل العجوز الذي كان معه بالسيارة يقف خلفه وهو يضحك ضحكة مقيتة ثم قال:
- " تعال ...رؤسائي يريدون رؤيتك يا عبد الوهاب "
استغرب عبد الوهاب من قول الرجل العجوز فهو لم يخبره باسمه من قبل مما زاد من خوفه حتى كاد قلبه أن يتوقف ثم قال بصوت مرتجف:
- " كيف عرفت اسمي ثم من رؤساؤك هؤلاء الذين تريد أن تأخذني إليهم؟ "
ابتسم الرجل العجوز قائلاً :
- " لاتكثر من الأسئلة وتعال معي فليس لديك خيار آخر "
وصل الرجل العجوز إلى مبنى وسط الاطلال يبدو أنه مهجور منذ زمن وانحنى الرجل العجوز قائلاً:
- " سيدي ... لقد احضرته كما أمرت "
يصعب وصف مشاعر عبد الوهاب وقتها فما رآه كان كفيلاً بأن يجمد الدم بعروقه ويشيب شعر رأسه من الخوف، وفي نفس الوقت كانت هناك عاصفة من المشاعر المتناقضة في داخله من فزع ودهشة واشمئزاز، فقد كان أمامه ثلاث زوبعات ترابية تتحرك أمامه وكأنها تمشي على قدمين مثل البشر، قالت الزوبعة التي في المنتصف بصوت اشبه بصفير ريح عاتية:
- " أحسنت أيها العجوز ... لقد أكملت مهمتك على أحسن وجه والآن كما وعدناك سنطلق سراحك "
انطلق الرجل العجوز يجري وهو فرحاً وأخذ يصفق مثل الأطفال، وفجأة وبدون سابق انذار انقضت عليه تلك الزوبعات وواخذت تلتهمه بشراهة ووحشية وسمع عبد الوهاب صوت الرجل المسكين وهو يصرخ صرخة تمزق القلب، لم يحتمل عبد الوهاب هذا المنظر فأخذ يتقيأ بشدة حتى أحمر وجهه ثم تحدثت الزوبعة لعبد الوهاب قائلة:
- " ليكن في علمك أن هذا هو مصيرك إن لم تنفذ ما نطلبه منك، سنعطيك مهلة ثلاثة أيام لتجلب لنا واحداً من البشر نتغذى عليه وإلا فتعال بنفسك لكي نلتهمك مفهوم ! "
عاد عبد الوهاب إلى سيارته ليجد المحرك قد عاد للعمل ثانية وأخذ يتبع الزوبعة التي جاءت تسير أمامه لكي تخرجه من الصحراء.. دخل عبد الوهاب منزله شارداً ممتقع الوجه حتى أنه نسي أن يغلق الباب خلفه فأسرعت إليه اسأله:
- " ما بك يا عزيزي؟ "
نظر إلي نظرة لم أفهمها وقال لي بصوت بالكاد خرج منه:
- " لن تصدقي حتى لو اخبرتك يا سعاد "
أجهش بالبكاء فجأة ، فضممته إلى صدري حتى هدأ وقمت أعد له الطعام وقدحاً من الشاي ألتهمهما ثم غط في نوم عميق كالقتيل، بعد ثلاث أيام من التفكير أخبرني عبد الوهاب بكل ما حدث معه بكل التفاصيل وعندما انتهى قال لي:
- " لقد قررت أن اسلم نفسي لهم لن أقبل أن أكون خادماً قذراً لأولئك المخلوقات وأخون بني جنسي ".
وخرج مسرعاً من البيت ولم يرد علي وأنا أناديه بصوت عال مليء بالقهر واللوعة، مرت ثلاث سنين منذ أن رحل عبد الوهاب وأنا لازلت وحيدة أتذكر كلماته الاخيرة لي ، لقد مات بطلاً، لذلك قررت أن اكتب لكم قصة الرجل الذي لم يقبل أن يخون بني جنسه عل حساب حياته، رحمك الله يا زوجي العزيز.