طوال عمري كنت لا أصدق الخرافات .. الأطفال الخضر والقطط الناطقة والموتى الأحياء والوحوش الأسطورية كلها تبدو لي خرافات .. هذيان من الشعوب القادمة والأمم المتخلفة .. ولماذا تعود في عصر العلم و الحقيقة .. أن هذا يبدو لي سخافة وإهانة للعقول !
و عندما سمعت هذه الحكاية السخيفة التي رواها لي قريبي الصعيدي الطيب منعت نفسي من الضحك بصعوبة وقلت له ملاطفاً :
- " لا تشغل بالك يا أخي .. هذه مجرد حكايات عجائز ! "
و رغم إصراره على صحة القصة إلا أنني حاولت إقناعه بعدم صحتها .. و لكنه ؛ فيما بدا لي ؛ كان مؤمناً بها إيمانه بالله وملائكته واليوم الآخر !
............................
هل تعرف محافظة سوهاج ؟!
إنها محافظة من محافظات صعيد مصر .. محافظة صغيرة لطيفة تمثل مخزن هائل من مخازن ( المصري الأصيل ) الموشك على الانقراض للأسف .. و بالطبع تروج فيها الحكايات و القصص غير العادية و تجد إذناً صاغية .. و هناك و على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات من مدينة ( البلينا ) توجد قرية صغيرة أسمها ( بني حلوة ) .. نعم أسمها هكذا ( بني حلوة ) .. و هي قرية صغيرة من قرانا الأصيلة الجميلة ولا شيء يميزها في الحقيقة عن معظم قرى مصر في الشمال والجنوب فيما عدا شيء واحد .. شيء صغير أقرب ما يكون لخرافة محلية الصنع منتشرة بشدة .. فمن الغريب إن ثلاثة أرباع حوادث السيارات التي تقع على خط ( البلينا – جرجا ) تحدث أمام مدخل هذه القرية بالضبط !
بل إن المنطقة نفسها أصبحت مشئومة لدرجة أن راكبي السيارات يبسملون ويرجون السلامة من الله عندما يجدون أنفسهم بالقرب من ( بني حلوة ) و يتمنون الخروج من هناك سالمين .. و المشكلة ليست في حوادث السيارات التي تحدث على الخط .. فما أكثر الحوادث المماثلة في مصر .. و لكن الغريب أن كثير من الناس منهم سائقين و ركاب عاديين و أناس متعلمين ذوي شأن يصرون على أن هناك ماعز أسود غريب الشكل يظهر أحياناً فجأة أمام إحدى السيارات المارة بالقرب من القرية ، فيفقد السائق السيطرة عليها و يتصادم مع سيارة أخرى أو يهوي في الترعة المحاذية .. و الناجون دائماً قليلون أو .. لا يوجد ناجين غالباً !
المشكلة أن بعض هؤلاء الشهود هم من السائقين الذين تعرضوا لحادث غريب في هذا المكان و نجوا بأعجوبة ليؤكدوا بعدها أنهم شاهدوا ماعز أسود تنشق عنه الأرض فجأة و يسير نحو سيارتهم .. و فجأة يفقدون سيطرتهم عليها و تتصادم أو تهوي !
..........................
حكاية ظريفة يتناقلها الناس الطيبون و يصدقونها .. ولكن ليس معنى هذا إنها حقيقية !
و لا أستطيع أن أحلل الشهادات المتعددة للبعض ؛ و منهم شهود عيان ؛ ولكن ربما كان الأمر لا يعدو مجرد إيحاء جماعي أو هذيان أسطوري مما يستهوي الناس في هذه المناطق !
قلت لقريبي ذلك .. ولكي أثبت له كذب هذه الخرافة أعطيته مثالاً بسيطاً وهو أنه هو نفسه يستخدم هذا الخط ويسير بمحاذاة هذه القرية يومياً .. ذهاباً و إياباً ومع ذلك لم يحدث له شيء يذكر !
ظللنا نتجادل على هذا النحو نصف ساعة أو أكثر .. ثم فجأة صمت قريبي و أشار لي بإصبعه نحو اليمين و قال :
- " هذه هي القرية التي أحدثك عنها ! "
ونظرت حيث أشار .. كانت ( بني حلوة ) رابضة في الظلام على بعد سنتيمترات من سيارتنا !
..........................
ولكن الرحلة مرت بسلام و الحمد لله .. و وصلنا إلى بلدتنا الصغيرة ؛ أو بلدة أسرتي ؛ الهادئة قرب منتصف الليل .. فأنا صعيدي أيضاً .. أو على الأصح من أصل صعيدي تمام و إن كنت قد ولدت و تربيت في القاهرة و لم أزر بلدة أسرتي في ( سوهاج ) إلا مرات نادرة إلا إن هذا لا يمنعني من شرف أن أكون صعيدي أصيل .. و إنه لشرف لو تعلمون عظيم !
و في بلدتي وجدت ترحيب و ود و دفء لم أتوقعه من أهلي الأصليين .. فالحفاوة في كل مكان أنزل فيه .. و الناس يريد كل منهم أن يستضيفني في بيته .. و بقية أقاربي يتعاركون على من يكون لديه العشاء و الغداء اليوم حتى ليوشكوا أن يجذبوني و يمزقوني بينهم !
إلا إن خرافة ( بني حلوة ) هذه ظلت تحتل جزء كبير من تفكيري لا أدري لماذا ؟!
..........................
ولم تكن زيارتي لبلدتي في ( سوهاج ) قاصرة على الالتقاء بأقاربي الأصليين الذين لم أراهم إلا مرات قليلة جداً حتى كدت لا أتعرف عليهم أصلاً .. و لكنها أفادتني في عملي أيضاً ومن هناك تمكنت من الحصول على عدد من الموضوعات والتحقيقات الصحفية الشيقة التي سال لها لعاب رئيس التحرير عندما أرسلتها له على طريق البريد الإلكتروني حتى كاد يطبع قبلاته على شاشة الكمبيوتر لتصلني في رسالة البريد .. المهم أنني قضيت وقتاً طيباً للغاية وسط أهلي البسطاء الممتلئين طيبة و أصلاً .. ومضت أيام زيارتي لسوهاج في لمح البصر .. و تصور .. لقد عبرت أمام القرية الملعونة ( بني حلوة ) ثلاثة آلاف مرة دون أن يحدث لسيارتنا شيء .. بل و حتى مجرد نفاد للوقود !
و جاء يوم الرحيل المنشود .. في الحقيقة أنه كان منشود قبل ذلك .. أما الآن فقد تمنيت من كل قلبي أن تتاح لي فرصة أكبر للتقرب أكثر و أكثر من أولئك الناس الطيبين الذين ما زالوا يحتفظون داخلهم بشيء غريب حبيب إلى النفس .. شيء غير محدد بالضبط .. و لكن لعله بقية من التراب النقي الذي جُبل منه " آدم " قبل أن تلوث أقدام البشر و مصائبهم تراب الأرض و تربتها و ماءها و هواءها !
المهم أنني في ليلة من منتصف شهر يناير ؛ و البرد على أشده ؛ وضعت حقيبتي في سيارة ابن عمي " خالد " و قلت له ببساطة :
- " على مطار مبارك يا حيببي "
كان مطار مبارك حديث الإنشاء وما زال أعجوبة أن ( سوهاج ) أخيراً أصبح لها مطار مثل المدن المهمة المحترمة .. و كان المسافة بين بلدتنا الصغيرة و بين ( سوهاج ) حوالي خمسين كيلومتراً .. و كان من رأي خالد أن أؤجل حجزي إلى الصباح أو إلى يوم آخر .. و لكنني أصررت على الرحيل الليلة لأنني أريد أن أكون في القاهرة صباحاً لأتمكن من تسليم بقية عملي لرئيس التحرير قبل أن تمر عليه أيام كثيرة و تصبح تقارير ( حامضة قديمة ).
و هكذا بدأنا رحلتنا على بركة الله .. و كانت السيارة تسير بسرعة كبيرة على طريق جيد .. و مرت ثلاثة أو أربعة كيلومترات بسلام .. و كنا في هذه اللحظة نمر بالضبط أمام قرية ( بني حلوة ) .. و فجأة راودني شعور غريب لا أفهم معناه .. و سقط الكتاب من يدي و شعرت بشيء غريب ينظر لي من يساري .. رفعت وجهي فوجدت القرية رابضة إلى جوارنا تماماً ، مدخلها الأصلي على يساري ، و المدخل الثاني الذي يتكون من كوبري صغير على يميني .. و هناك على يميني وجدت نفسي ؛ أحدق مباشرة في وجه ماعز ضخم أسود اللون قبيح ككابوس .. من أين جاء لا أدري ؟!
و سمعت ابن عمي يبسمل بصوت مرتجف و يردد بذعر :
- " سترك يا رب .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "
و لا أذكر ما حدث بالضبط .. بل كل ما علق بذاكرتي هو صوت ابن عمي المرتجف المذعور والماعز القبيح وهو يتحرك نحونا في هدوء قاتل و يحدق في وجوهنا بعينيين ناريتين .. لم يستغرق الأمر أكثر من ثانية .. و فجأة أفلتت عجلة القيادة من يد " خالد " و وجدت السيارة تهوي بنا .. تهوي و تهوي في مكان سحيق بلا قرار !
........................
فتحت عيناي بصعوبة فوجدت أسرتي كلها حولي .. زوجتي وابني و ابنتي وأمي العجوز .. و لم يكونوا وحدهم بل إن كل أقاربي من سوهاج كانوا هناك أيضاً .. وحتى رئيس التحرير كان موجوداً بجانبي مباشرة .. لم أسأل إلا عن شيء واحد :
- " خالد .. ابن عمي .. أين هو ؟! "
و فوجئت بصمت عميق و نظرة متحسرة في العيون .. ففهمت .. لقد مات الشاب المسكين .. مات ليكون ضحية أخرى من ضحية هذا الماعز الشيطاني المخيف !
سألت زوجتي عما حدث .. فأخبرتني ؛ و هي تغالب دموعها ؛ أنهم اتصلوا بها من ( سوهاج ) وأخبروها أنني عملت حادثة بالسيارة أنا و أبن عمي " خالد " .. فهرعت على الفور هي والطفلين و أمي من القاهرة .. و عندما وصلوا المستشفى المركزي في البلينا ( أقرب مكان للحادث ) وجدوا ابن عمي قد فارق الحياة متأثراً بإصابته البالغة .. أما أنا فكنت راقداً بين الحياة والموت أعاني من كسور عديدة في الساقين و الذراع الأيمن و أحد الضلوع و كذلك ارتجاج في المخ .. وأنني رقدت في غيبوبة لمدة خمسة أيام حتى استعدت وعي الآن !
اقترب مني رئيس التحرير وقال لي بتسرع ؛ فقد جاءت الممرضة و طلبت من الزوار كلهم الخروج فوراً لأتمكن من النوم و الراحة ؛ قال لي رئيسي بصوت خافت :
- " اسمع يجب أن تخبرني تفاصيل ما حدث لحظة بلحظة .. لابد إنها كانت حادثة مثيرة .. إنها عاشر حادثة تحدث في هذا المكان خلال شهر واحد ؟! "
حدقت في وجه رئيس التحرير عاجزاً عن النطق .. ماذا أقول له ؟!
أأقول له أنني أنا الذي كنت أكثر من ينكر فكرة هذه الأسطورة و يرفض تصديقها و يسخر ممن يصدقها قدر لي أن أرى هذا الماعز الشيطاني رأي العين و كأنه يخرج لي لسانه أنا بالذات ؟!
أأقول له أنني أحمق ومغرور بالباطل و أعتقد أن العلم وحده يجيب على كل الأسئلة في الكون و يحل كل المشاكل ؟!
لا لن أقول له شيء و لأحتفظ بهذا السر لنفسي .. ولأموت ذعراً وحدي ولا أدع الآخرون يسخرون مني كما كنت أسخر أنا منهم !
ابتلعت ريقي وقلت لرئيسي بصعوبة بالغة :
- " لا شيء .. لقد أختلت عجلة القيادة وفقد " خالد " السيطرة على السيارة .. وانحرفت السيارة عن طريقها و هوت في الترعة .. هذا هو كل ما حدث ! "
وعدت اكرر هذا هو ما حدث