مسكينة مصر.. ما إن تفوق من مرض عضال حتي يسكن جسدها مرض آخر.. أشد قسوة وأكثر ألماً.. تخلصت من مرض أصابها ثلاثين عاماً كاملة.. أوهن جسدها وأضعف إرادتها وداس علي كرامتها وقزم دورها وأهدر مكانتها.. وما إن انتفض الجسد العليل وعادت إليه الحياة وجرت الدماء
في شرايينه المتيبسة في 25 يناير، حتي استطاعت مصر التخلص من مرضها ومن كل توابعه، وعادت مصر عفية.. قوية، وكأنها شابة في العشرين، أيام قليلة قضتها مصر بين أهلها وناسها وأحبابها، الجميع
تحلق حولهم وكأنهم يزفونها إلي عريسها.. الكل يتسابق في تهنئتها والإشادة بها وتزيينها، ولكن كطبيعة كل أهل مصر وأحبابها كلما علت ضحكاتهم حتي تجدهم علي الفور يقولون «اللهم اجعله خيراً»، وكأنهم يتوجسون شراً، وكأن الفرحة كثيرة عليهم.
وللأسف هذا ما حدث.. فجأة هجم علي جسد مصر مرض خبيث أشد ضرراً وأخطر تدميراً من الأول
ووسط الفرحة والتهليل.. سقط الجسد الحبيب مريضاً بالداء الجديد، الذي أدي في عام واحد لإصابتها بالهزال والهمدان، وهنت ذاكرتها، وتغيرت هويتها، تغير شكلها ورسمها.. مصر لم تعد هي مصر التي
تغني باسمها الشعراء والمطربون، لم تعد مصر الأمن والأمان.. أصبحت مسكونة بالبوم والغربان
والحدادي التي ظلت تنعق في سمائها بصيحات القتل والترويع والدم والبغضاء.. ساد الانقسام أجواءها،
وتلوثت سماؤها.. وتعكرت مياهها العذبة تلون نيلها بلون الدم.. هربت منه عروسه وحل محلها جثث
القتلي وجيف الحيوانات.. خرج أهل مصر وأحبابها يصرخون في البرية ماذا حدث لك يا أمي؟.. ماذا أصابك يا مصر؟.. يا مهجة الفؤاد ومنية القلب.. سلامتك يا أم الدنيا.. لم ترد عليهم بأية كلمة فقط.. فقط
نظرت إليهم بعينيها المريضتين تستغيث بهم.. تستنهض هممهم، تدعوهم لإنقاذها من الداء الخبيث، الذي سكن جسدها الواهن، وكأنها تريد أن تقول لهم أبداً لن يخلصني من مرضي إلا أنتم.. بوحدتكم.. بقلوبكم
الصافية.. أنا تحملت الكثير من آلاف السنين.. غازياً وراء غازياً.. ومحتلاً وراء محتلاً.. الكل طمع في
جمالي ومكانتي.. لكنهم أبداً لم يستطيعوا أن يكسروا إرادتي وعزيمتي.. حتي أصبحت أرضي مقبرة
للغزاة.. وهأنا اليوم أطلب معونتكم.. أستنهض رجولتكم.. ولو صمتم أو تخاذلتم ستغتصب أمكم من كلاب
السكك.. أرجوكم يا أولادي لا تتخلوا عن أمكم.. لا تتركوني لوحدي.. فأنا بكم قادرة علي التخلص من
كل داء مهما كان شره.
منصووووووووووووره ياام الدنيا